فصل: ذكر نسائه وأولاده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حوادث سنة اثنتين وتسعين ومائة:

.ذكر مسير الرشيد إلى خراسان:

فيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث، وكان مريضاً واستخلف على الرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، وسار من بغداد إلى النهروان لخمس خلون من شعبان، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وأمر المأمون بالمقام ببغداد. فقال الفضل بن سهل للمأمون، حين أراد الرشيد المسير إلى خراسان: لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك، وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهوابن زبيدة وأخواله بنوهاشم، وزبيدة وأموالهأن فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه؛ فطلب إليه ذلك، فأجابه بعد امتناع.
فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري، فقال له: يا صباح لا أظنك تراني أبدأن فدعا؛ فقال: ما أظنك تدري ما أجد. قال الصباح: لا والله؛ فعدل عن الطريق، واستظل بشجرة، وأمر خواصه بالبعد، فكشف عن بطنه. فإذا عليه عصابة حرير، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين، وما منهم أحد إلا وهويحصي أنفاسي، ويستطيل دهري، وإن أردت أن تعلم ذلك، فالساعة أدعوبدابة فيأتوني بدابة أعجف قطوف لتزيد بي علتي، فاكتم علي ذلك. فدعا له بالبقاء، ثم طلب الرشيد دابة، فجاؤوا بها على ما وصف، فنظر إلى الصباح وركبها.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها تحركت الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف، فقتل وسبى وأسر، ووافه بقرماسين، فأمره بقتل الأسرى، وبيع السبي.
وفيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد بأبي النداء، فقتله.
وفيها فارق جماعة من القواد رافع بن الليث، وصاروا إلى هرثمة، منهم عجيف بن عنبسة وغيره.
وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن نصر بن مالك، فافتتح مطمورة. وفيها كان الفداء بالبذندون. وفيها خرج ثروان الحروري بطف البصرة، فقاتل عامل السلطان بها.
وفيها مات عيسى بن جعفر بن المنصور بالدسكرة، وهويريد اللحاق بالرشيد.
وفيها قتل الرشيد الهيصم الكناني وحج بالناس هذه السنة العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور.
وفيها كان وصول هرثمة إلى خراسان، كما تقدم، وحصر هرثمة رافع بن الليث بسمرقند، وضايقه، واستقدم طاهر بن الحسين فحضر عنده وخلت خراسان لحمزة الخارجي، حتى دخلهأن وصار يقتل، ويجمع الأموال، ويحملها إليه عمال هراة وسجستان، فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري، فاجتمع إليه نحوعشرين ألفأن فسار إلى حمزة فقاتله قتالاً شديداً فقتل من أصحاب حمزة خلقأن وسار خلفه حتى بلغ هراة، وكان ذلك سنة أربع وتسعين، فكتب إليه المأمون، فرده وأدام هرثمة على حصار سمرقند حتى فتحهأن على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ وقتل رافع بن الليث وجماعة من أقربائه، واستعمل على ما وراء النهر بن يحيى، فعاد، وكان قتله رافعاً سنة خمس وتسعين.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي، ويوسف بن أبي يوسف القاضي.
وفيها كان الفداء الثاني بين المسلمين والروم، وكان القيم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي، وكان عدة الأسرى من المسلمين ألفين وخمسمائة أسير.

.حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة:

.ذكر موت الفضل بن يحيى:

في هذه السنة مات الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة، وكانت علته أنه أصابه ثقل في لسانه وشقه، فعولج أشهرأن فبرأن وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد لأن أمري قريب من أمره.
فلما صح من علته، وتحدث، عادته العلة، واشتدت عليه، وانعقد لسانه وطرفه، فمات في المحرم، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه، ثم أخرج فصلى عليه الناس، وجزع الناس عليه. وكان موته قبل الرشيد بخمسة أشهر وهوابن خمس وأربعين سنة؛ وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله؛ ولاشتهار أخباره، وأخبار أهله، وحسن سيرتهم لم نذكرها.
وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.
وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع كان الظفر لهرثمة، وافتتح بخاري، وأسر بشيراً أخاص رافع، فبعث به إلى الرشيد.

.ذكر موت الرشيد:

وفي هذه السنة مات الرشيد أول جمادى الآخرة لثلاث خلون منه، وكانت قد اشتدت علته بالطريق بجرجان، فسار إلى طوس فمات بها.
قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، أتعرف حاله في ليلته، ثم يحدثني وينبسط إليّ، ويسألني عن أخبار العامة، فدخلت عليه يومأن فسلمت عليه، فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابساً مفكراً مهمومأن فوقفت ملياً من النهار، وهوعلى تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت فسألته عن حاله، وما سببه؟ فقال: إن فكري وهمي لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتني، وملأت صدري. فقلت: فرجت عني، يا أمير المؤمنين؛ ثم قبلت يده ورجله، وقلت: الرؤيا إمنا تكون لخاطر أوبخارات ردية، وتهاويل السوداء، وهي أضغاث أحلام.
قال: فإني أقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذأن إذ بدت من تحتي ذراع أعرفهأن وكف أعرفهأن لا أفهم اسم صاحبهأن وفي الكف تربة حمراء. فقال لي قائل اسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها؛ فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: طوس، وغابت اليد، وانقطع الكلام.
فقلت: أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان، وما ورد عليك منهأن وانتقاض بعضهأن فذلك الفكر أوجب هذه الرؤيا.
فقال: كان ذلك؛ فأمرته باللهو والانبساط، ففعل، ونسينا الرؤيأن وطالت الأيام، ثم سار إلى خراسان لحرب رافع، فلما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تزيد، حتى دخلنا طوس، فبينا هويمرض في بستان في ذلك القصر الذي هوفيه، إذ ذكر تلك الرؤيأن فوثب متحاملاً يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه نسأله، فقال: أتذكر رؤياي بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال: جئني من تربة هذا البستان! فأتاه بها في كفه حاسراً عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه الكف بعينهأن وهذه التربة الحمراء ما خرمت شيئاً؛ وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بعد ثلاثة أيام.
قال أبوجعفر: لما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في صفر، وقد اشتدت علته، فسير ابنه المأمون إلى مرو، وسير معه من القواد عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وأسد بن يزيد، والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، والسندي الحرشي، ونعيم بن حازم، وسار الرشيد إلى طوس واشتد به الوجع، حتى ضعف عن الحركة، فلما أثقل أرجف به الناس، فبلغه ذلك، فأمر بمركوب ليركبه ليراه الناس، فأتي بفرس فلم يقدر على النهوض، فأتي ببرذون فلم يطق النهوض، فأتي بحمار فلم ينهض، فقال: ردوني! صدق والله الناس.
ووصل إليه، وهو بطوس، بشير بن الليث أخو رافع أسيرأن فقال الرشيد: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فأمر به، ففصل أعضاءه، فلما فرغ منه أغمي عليه، وتفرق الناس عنه.
فلما أيس من نفسه أمر بقبره، فحفر في موضع من الدار التي كان فيها، وأنزل إليه قومأن فقرأوا فيه القرآن حتى ختموأن وهوفي محفة على شفير القبر، يقول: ابن آدم تصير إلى هذا؛ وكان يقول في تلك الحال: واسوأتاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الهيثم بن عدي: لما حضرت الرشيد الوفاة غشي عليه، ففتح عينيه منها فرأى الفضل بن الربيع على رأسه، فقال: يا فضل:
أحين دنا ما كنت أرجو دنوه ** رمتني عيون الناس من كل جاني

فأصبحت مرحوماً وكنت محسداً ** فصبراً لي مكروه أمن العواقب

سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ** وأندب أيام السرور الذواهب

قال سهل بن صاعد: كنت عند الرشيد وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة، فاجتبى بهأن وجعل يقاسي ما يقاسي، فنهضت، فقال: اقعد، فقعدت طويلاً لا يكلمني ولا أكلمه، فنهضت، فقال: أين سهل؟ فقلت: ما يتسع قلبي يا أمير المؤمنين، يعاني من المرض ما يعاني، فلواضطجعت، يا أمير المؤمنين، فضحك ضحك صحيح، ثم قال: يا سهل! اذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماساً وصبراً شدة الحدثان

ثم مات، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع، وإسماعيل بن صبيح، ومسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومأن وقيل ملك ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستة عشر يومأن وكان عمره سبعاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان جميلأن وسيماً أبيض، جعداً قد وخطه الشيب؛ قال: وكان في بيت المال لما توفي تسعمائة ألف ألف ونيف.

.ذكر ولاة الأمصار أيام الرشيد ولاة المدينة:

إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب، بكار بن عبد اله بن مصعب، محمد بن علي، أبوالبختري وهب بن منبه.

.ولاة مكة:

العباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبيد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى، محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، الفضل بن العباس بن محمد، أحمد بن إسماعيل بن علي.

.ولاة الكوفة:

موسى بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن محمد بن إبراهيم، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى، جعفر بن أبي جعفر.

.ولاة البصرة:

محمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد، جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، جرير بن يزيد، عبد الصمد بن علي، إسحاق بن عيسى بن علي.

.ولاة خراسان:

أبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاب، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة بن مالك، الفضل بن يحيى بن خالد، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى، وخليفته بها علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين، العباس بن جعفر للمأمون بهأن علي بن الحسن بن قحطبة.

.ذكر نسائه وأولاده:

قيل: تزوج زبيدة، وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها سنة خمس وستين ومائة، فولدت محمداً الأمين، وماتت سنة ست وعشرين ومائتين.
وتزوج أمه العزيز أم ولد الهادي، فولدت له علي بن الرشيد. وتزوج أم محمد بنت صالح المسكين. وتزوج العباسة بنت سليمان بن المنصور. وتزوج عزيزة ابنة خاله الغطريف. وتزوج العثمانية، وهيس ابنة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمروبن عثمان بن عفان، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي.
ومات الرشيد عن أربع مهائر: زبيدة، وأم محمد بنت صالح، وعباسة، والعثمانية.
وكان قد ولد له من الذكور: محمد الأمين من زبيدة، وعبد الله المأمون، لأم ولد اسمها مراجل، والقاسم المؤتمن، وأبوإسحاق محمد المعتصم، وصالح، وأبوعيسى محمد، وأبويعقوب محمد، وأبوالعباس محمد، وأبوسليمان محمد، وأبوعلي محمد، وأبومحمد، وهواسمه، وأبوأحمد محمد، كلهم لأمهات أولاد.
وله من البنات سكينة، وأم حبيب، وأروى، وأم الحسن، وأم محمد، وهي حمدونة، وفاطمة، وأم أبيهأن وأم أبيهأن وأم سلمة، وخديجة، وأم القاسم، ورملة، وأم جعفر، وأم علي، والعالية، وريطة، كلهن لأمهات أولاد.

.ذكر بعض سيرته:

قيل: كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيأن إلا من مرض، وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة.
وكان يطلب العمل بآثار المنصور، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك.
وكان يحب الشعر الشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، وكان يحب المديح، لا سيما من شاعر فصيح، ويجزل العطاء عليه، ولما مدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدته التي منها:
وسدت بهارون الثغور فأحكمت ** به من أمور المسلمين المرائر

أعطاه خمسة آلاف دينارن وخلعة، وعشرة من الرقيق الرومي، وبرذون من خاص مركبه.
وقيل: كان مع الرشيد ابن أبي مريم المديني، وكان مضحاكاً فكهأن يعرف أخبار أهل الحجاز، وألقاب الأشراف، ومكايد المجان فكان الرشيد لا يصبر عنه، وأسكنه في قصره، فجاء ذات ليلة وهونائم، فقام الرشيد إلى صلاة الفجر، فكشف اللحاف عنه وقال: كيف أصبحت؟ فقال: ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك. قال: قم إلى الصلاة! قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف. فمضى الرشيد يصلي، وقام ابن أبي مريم وأتى الرشيد فرآه يقرأ في الصلاة: {وما لي لا أعبد الذي فطرني} يس: 22 فقال: ما أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك، ثم قال له وهومغضب: في الصلاة أيضاً! قال: وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي. قال: والله ما فعلت، إمنا سمعت منك كلاماً غمني حين قلت:: {وما لي لا أعبد الذي فطرني}؟ فقلت: لا أدري: فعاد الرشيد فضحك ثم قال له: إياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدهما.
وقيل: استعمل يحيى بن خالد رجلاً على بعض أعمال الخراج، فدخل على الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر، فقال لهما الرشيد: أوصياه! فقال يحيى: وقر واعمر! وقال جعفر: أنصف وانتصف! فقال الرشيد: اعدل وأحسن.
وقيل: حج الرشيد مرة، فدخل الكعبة، فرآه بعض الحجبة وهوواقف على أصابعه يقول: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسأله منك رداً حاضرأن وجواباً عتيدأن ولكل صامت منك علم محيط، ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صل على محمد، وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنأن وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايأن يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، صل على محمد وعلى آل محمد، وخر لي في جميع أموري يا من خشعت له الأصوات، بأنواع اللغات، يسألونه الحاجات، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي ذنوبي، إذا توفيتني وصيرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي، اللهم لك الحمد حمداً يفضل كل حمد كفضلك على جميع الخلق؛ اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد، صلاة تكون له رضى وصل عليه صلاة تكون له ذخراً وأجزه عنا الجزاء لا أوفى؛ اللهم: أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء مرجومين.
وقيل دخل ابن السماك على الرشيد، فبيمنا هوعنده إذ طلب ماء، فلما أراد شربه قال له ابن السماك: مهلأن يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لومنعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي. قال: اشرب؛ فلما شرب قال: أسألك بقرابتك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لومنعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي. قال: إن ملكاً لا يساوي شربة ماء وخروج بولة لجدير أن لا ينافس فيه! فبكى الرشيد.
وقيل: كان الفضيل بن عياض يقول: ما من نفس أشد علي موتاً من هارون الرشيد، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره؛ فعظم ذلك على أصحابه؛ فلما مات، وظهرت الفتن، وكان من المأمون ما حمل الناس عليه من القول بخلق القرآن، قالوا: الشيخ أعلم بما تكلم به.
وقال محمد بن منصور البغدادي: لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عيناً يأتيه بما يقول: فرآه يوماً قد كتب على الحائط:
أما والله إن الظلم لؤم ** وما زال المسيء هوالظلوم

إلى ديان يوم الدين بمضي ** وعند الله تجتمع الخصوم

فأخبر بذلك الرشيد، فبكى، وأحضره، واستحله، وأعطاه ألف دينار.
وقال الأصمعي: صنع الرشيد يوماً طعاماً كثيراً وزخرف مجالسه، وأحضر أبا العتاهية، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا؛ فقال:
عش ما بدا لك سالماً ** في ظل شاهقة القصور

فقال: أحسنت! ثم قال: ماذا؟ فقال:
يسعى عليك بما اشتهي ** ت لدى الرواح وفي البكور

فقال: أحسنت! ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ** في ظل حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً ** ما كنت إلا في غرور

فبكى الرشيد. وقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته. فقال: دعه، فإنه رآنا في عميً، فكره أن يزيدنا.

.خلافة الأمين:

وفي هذه السنة بويع الأمين بالخلافة في عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التي توفي فيها؛ وكان المأمون حينئذ بمرو، فكتب حمويه مولى المهدي، صاحب البريد، إلى نائبه ببغداد، وهوسلام بن مسلم، يعلمه بوفاة الرشيد، فدخل أبومسلم على الأمين فعزاهن وهنأه بالخلافة، فكان أول الناس فعل ذلك.
وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين يخبره بوفاة الرشيد، مع رجاء الخادم، وأرسل معه الخاتم، والقضيب، والبردة، فلما وصل رجاء انتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة، وصلى بالناس الجمعة، ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزى نفسه والناس، ووعدهم الخير، وأمن الأبيض والأسود، وفرق في الجند الذين ببغداد رزق أربعة وعشرين شهرأن ودعا إلى البيعة، فبايعه جلة أهل بيته، وكل عم ابنه، وأمر سليمان بن المنصور بأخذ البيعة على القواد وغيرهم، وأمر السندي أيضاً بمبايعة من عداهم.

.ذكر ابتداء الاختلاف بين الأمين والمأمون:

في هذه السنة ابتدأ الاختلاف بين الأمين والمأمون ابني الرشيد.
وكان سبب ذلك أن الرشيد لما سار إلى خراسان، وأخذ البيعة للمأمون على جميع من في عسكره من القواد وغيرهم، وأقر له بجميع ما معه من الأموال وغيرهأن على ما سبق ذكره، عظم على الأمين ذلك، ثم بلغه شدة مرض الرشيد، فأرسل بكر بن المعتمر، وكتب معه كتبأن وجعلها في قوائم صناديق المطبخ، وكانت منقورة، وألبسها جلود البقر، وقال: لا تظهرن أمير المؤمنين، ولا غيره، على ذلك، ولوقتلت، فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم ما معك.
فلما قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه، فدعا به، وسأله عن سبب قدومه، فقال: بعثني الأمين لآتيه بخبرك؛ قال: فهل معك كتاب؟ قال: لا؛ فأمر بما معه ففتش، فلم يصيبوا شيئأن فأمر به فضرب، فلم يقر بشيء، فحبسه، وقيده، ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه؛ فقرره، فلم يقر بشيء، ثم غشي على الرشيد، فصاح النساء، فأمسك الفضل على قتله، وحضر عند الرشيد، فأفاق وهوضعيف قد شغل عن بكر وغيره ثم مات.
وكان بكر قد كتب إلى الفضل يسأله أن لا يعجل في أمره بشيء، فإن عنده أشياء يحتاج إلى عملهأن فأحضره الفضل، وأعلمه بموت الرشيد، وسأله عما عنده، فخاف أن يكون الرشيد حيأن فلما تيقن موته أخرج الكتب التي معه، وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع، وأخذ البيعة على الناس لهما ولأخيهما المؤتمن، ولم يكن المأمون حاضرأن كان بمرو؛ وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر وأصحاب ما فيه، وأن يتصرف هوومن معه برأي الفضل؛ وكتاب إلى الفضل يأمره بالحفظ ولا احتياط على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك، وأقر كل من كان له عمل على عمله، كصاحب الشرطة والحرس والحجابة.
فلما قرأوا الكتب تشاوروا هم والقواد في اللحاق بالأمين، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً حاضراً لآخر ما أدري ما يكون من أمره. وأمر الناس بالرحيل، فرحلوا محبة منهم لأهلهم ووطنهم، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.
فلما بلغ المأمون ذلك جمع من عنده من قواد أبيه، وهم: عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، والعلاء مولى هارون، وهوعلى حجابته، والعباس بن المسيب بن زهير، وهوعلى شرطته، وأيوب بن أبي سمير، وهوعلى كتابته، وعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذوالرياستين، وهوأعظمهم عنده قدرأن وأخصهم به، واستشارهم، فأشاروا أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، فخلا به ذوالرياستين، وقال: إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتاباً وتوجه رسولاً يذكرهم البيعة، ويسألهم الوفاء، ويحذرهم الحنث وما فيه دنيا وآخرة.
ففعل ذلك؛ ووجه سهل بن صاعد، ونوفلاً الخادم، ومعهما كتاب، فلحقا الجند والفضل بنيسابور، فأوصلا إلى الفضل كتابه، فقال: إمنا أنا واحد من الجند؛ وشد عبد الرحمن بن جبلة الأنباري على سهل بالرمح ليطعنه، فأمره على جنبه، وقال له: قل لصاحبك: لوكنت حاضراً لوضعته في فيك. وسب المأمون.
فرجعا إليه بالخبر، فقال ذوالرياستين: أعداء استرحت منعهم، ولكن أفهم عني أن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام المنصور. فخرج عليه المقنع وهويدعي الربوبية، وقيل طلب بدم أبي مسلم، فضعضع العسكر بخروجه بخراسان، وخرج بعده يوسف البرم، وهوعند المسلمين كافر، فتضعضعوا أيضاً له، فأخبرني أنت، أيها الأمير، كيف رأيت الناس عندما ورد عليهم خبر رافع؟ قال: رأيتهم اضطربوا اضطراباً شديداً. قال: فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم؛ كيف يكون اضطراب أهل بغداد؟ اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة.
قال المأمون: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك، فقم به.
قال ذوالرياستين: والله لأصدقنك، إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع مني برياستهم المشهورة، وبما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادماً له، حتى تبلغ أملك وترى رأيك.
وقام ذوالرياستين وأتاهم في منازلهم، وذكرهم ما يجب عليهم من الوفاء، قال: فكأني جئتهم بجيفة على طبق. فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج! وقال بعضهم: من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ فجئت وأخبرته، فقال: قم بالأمر! قال: قلت له: قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فأرى أن تبعث إلى من بحضرتك من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على الصوف، وترد المظالم.
ففعل ذلك جميعه، وأكرمه القواد والملوك، وأبناء الملوك، وكان يقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بن كعب؛ وللربعي: نقيمك مقام أبي داود، وخالد بن إبراهيم؛ ولليماني: نقيمك مقام قحطبة، ومالك بن الهيثم؛ وكل هؤلاء نقباء الدولة العباسية. ووضع عن خراسان ربع الخراج، فحسن ذلك عند أهلهأن وقالوا: ابن أختنأن وابن عم نبينان وأما الأمين، فلما سكن الناس ببغداد أمر ببناء ميدان حول قصر المنصور، بعد بيعته بيوم، للوالجة واللعب؛ فقال شاعرهم:
بنى أمين الله ميداناً ** وصير الساحة بستاناً

وكانت الغزلان فيه باناً ** يهدي إليه فيه غزلانا

وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري، وأهدى إلى الأمين، وكتب إليه وعظمه.